كذب وافتراء كذب وافتراء

ترافقنا الحية الكاذبة والخادعة منذ أيامنا في جنة عدن، لكنها، وحتى بعد أن طرِدنا منها، ما زالت توسوس وتهمس في آذاننا حتى اليوم. يرافقنا الكذب والخداع من فجر التاريخ، وقبل ذلك حتى، حيث أن الآلهة المحتالة والأرواح المخادعة تسكن كافة بقاع العالم القديم: لوكي في الميثولوجيا النوردية، أنانسي في الميثولوجيا الأفريقية، الملك القرد سون ووكونغ في الميثولوجيا الصينية، وإيكتومي في تراث قبيلة لاكوتا في أقفار أمريكا الشمالية. يخدع هؤلاء ويحتالون على الآلهة والبشر والأرواح، للتعلم أحيانًا، أو التضليل، أو لمحض التسلية والمتعة. 

لا يحتاج البشر لمخلوقات محتالة خارقة بالطبع لملء العالم بالأكاذيب والافتراءات. تظهر ميول البشر للكذب مليًا على صفحات التوراة: يكذب قابيل على الله بشأن مصير أخيه، يكذب إبراهيم على المصريين فيما يتعلق بهوية سارة، يكذب يعقوب على أبيه ليحظى بالبركة بدل أخيه، يكذب أبناء يعقوب على شكيم، بنو إسرائيل في الصحراء يفضلون إلهًا مزيفًا على شكل عجل ذهبي على الله الذي حررهم من العبودية قبل لحظة، وأنبياءٌ كَذَبة يدفعون بالجميع لعبادة آلهة غير الله. 

الأسطورة التأسيسية في الفلسفة الغربية تبعد أكثر من ذلك حتى مدّعية أن العالم المادي بأكمله هو بمحض كذبة. في مَثَله، يتخيل أفلاطون أسرى مكبلين بالأصفاد في كهف يشاهدون الظلال الكاذبة المنعكسة على الحائط أمامهم قانعين أنها الحقيقة. العالم المادي بأكمله، عالم الصيرورة، هو عالم كاذب، وفقًا لأفلاطون. فقط من ينجح بتحرير نفسه من الأغلال يخرج من الكهف إلى عالم الوجود المثالي، العالم الحقيقي. الكيان البشري إذًا، هو كاذب في أساسه. للتوصل إلى الحقيقة يحتاج المرء لجهود صعبة، تكاد تكون مستحيلة. 

لكن حتى وإن كانت الأكاذيب جزءًا لا يتجزأ من الحضارات الإنسانية منذ الأزل، يبدو أنها تتصاعد وتزيد مؤخرًا بشكل لا سابقة له. زعزع العصر الرقمي مفاهيم الثقة، والأصالة والحقيقة: أخبار زائفة، deep fake، صور مزيفة، معلومات مضللة - أصبحت جميعها ظواهر شائعة نواجهها يوميًا. يتواجد عالم الأكاذيب هذا على الإنترنت بأغلبه، لكن الشاشة تسقِط أجزاءًا كبيرة منه إلى الواقع خارجها أيضًا. غزا عصر الـ post-truth كلا من الواقعَين، الرقمي والتناظري، ولم يحثنا على التكاسل والتخلي عن البحث عن الحقيقة فحسب، بل ويزيدنا بالشعور أن حتى وإن وجِدَت، فليس من الواضح ما هي قيمتها أصلًا. يثبت الوهم في هذا العصر فعاليته ونجاعته، الاقتصادية، والاجتماعية والسياسية يومًا بعد يوم.

على المحور الممتد بين الواقع والخيال، يتأرجح عمل المصمم بين قطبَين: بناء تصميم مذهل يعكس التوق المستمر للجمال والاستسلام للدافع لخلق الرغبة لدى المستهلك لتعظيم الأرباح من جهة، والسعي لخلق الشفافية وبناء الثقة وتحمل المسؤولية من جهة أخرى.  

أليس التصميم في أساسه إخفاءًا خبيثًا للحقيقة؟ كيف، وهل بإمكانه أصلًا، أن يساعد في تعزيز الشفافية والصدق؟

يسعى أسبوع التصميم، القدس 2023 لإعادة دور المصمم\ة والاحتفاء به في هذه السياقات، وذلك من خلال أعمال تستكشف أهمية الأوهام (أعمال تخفي وتخدع وتخلق واقعًا موازيًا)، وأعمال تتناول الاكتشاف والكشف والحقيقة والصدق رغم، وفرة الكذب والخداع.